Wednesday, February 1, 2012

عازف الجيتار العجوز






في وقت متأخر من أحد ليالي الشتاء استيقظ أهالي البلدة على صوت جيتار حزين يشق سكون أحد ليالي ديسمبر الباردة توجه الجميع كلٌ نحو نافذته في محاولة لإكتشاف مصدر الصوت ولكن كثافة الضباب حالت بينهم وبين لمصدر..

استيقظ الناس في صباح اليوم التالي وظلت أنغام الجيتار الحزين تنبعث من أطراف البلدة ناحية النهر, توجه اهالي البلدة الى هناك ليجدوا رجلا عجوز رث الثياب طويل اللحية هزيل الجسم يعزف دون توقف على أوتار جيتارة الخشبي القديم وتتساقط دموعه في نظام متناغم مع الحان جيتاره الحزينة

ظل الناس يتوافدون ومكثوا بجواره لساعات وساعات منتظرين ان يتوقف عن العزف للحظة حتى يتثنى لهم سؤاله ...من انت ومن اين اتيت؟ وما حكايتك ولكنه لم يتوقف كذلك للم تتوقف دموعه عن الانهمار.. ظلوا صامتين لساعات عديدة منتظرين أن يصيبه التعب ولكن دون فائدة.ذهب اليه حكيم البلدة ليسأله قام العجوز من على شاطئ النهر ظن الناس أنه سوف يتوقف عن العزف ويجيب عن أسئلة الحكيم ولكنه ظل يواصل العزف ومشى ناحية الطريق..

مضى العجوز في طريقة مستمرا في عزف نفس اللحن الحزين وتبعه أهالي البلدة حتى أدركهم المساء فذهبوا جميعاً الى منازلهم دعاه البعض ليقضى الليلة عندهم ولكنة لم يكن يجيب لم كن حتى ينظر الى احد ولم يتوقف عن العزف للحظة واحدة.

ظل العجوز يعزف طوال الليل كان هناك شيء غريب في عزفه انه نفس اللحن لم يتغير منذ ليلة الأمس يعيده مرارا وتكرارا لحنٌ على قدر ما يحمله من حزن بين أنغامه على قدر ما يبعث من طمأنينة غريبة في النفوس فلأول مرة منذ سنوات ينام أهل البلدة نوماً عميقاً على تلك الأنغام ,تتوقف الأطفال عن البكاء بمجرد سماع أنغامه تلتف الطيور حوله في السماء وهي تغرد كأنها تغني على هذا اللحن الحزين.

في صباح اليوم التالي استمرت الأنغام ولكن بصوت خفيض بحث الناس عن الرجل العجوز وجدوه عند أطراف البلدة في طريقة الى مغادرتها حاول اهل البلدة ان يقنعوه بالبقاء ولكنه لم يرد لم يكن يلتفت اليهم كانت عيناه الغائرتان في تجويفهما بفعل السن والدموع تنظر نظرة ثابتة نحو شيء ما في الافق شيء غير مرئي كانت نظراته ثابته تجاه نقطة محددة كأن هناك شيء لا يراه الى العجوز في هذا الاتجاه.

ظل عازف الجيتار العجوز يتنقل من بلدة الى بلدة ومن مدينة الى مدينة وتناقلت اخباره في كل مكان منهم من يقول أنه رأه عند النهر ومنهم من يقول انه عند أطراف الغابة منهم من يقول انه ليس ببشر فما يفعله فوق طاقة البشر لاينام لا يأكل لا يتوقف عن البكاء ظل عازف الجيتار العجوز يتنقل من مكان الى مكان دون أن يعرف أحد قصته.حتى وصل الى قرية ما جلس بالقرب من شجرة فوق أحد التلال الخضراء شجرة وحيدة في وسط تلك الأرض الشاسعة أسند ظهره إليها وظل يعزف دون توقف.

ظل الناس يتوافدون من كل أنحاء البلاد من كل القرى والمدن التي مر عليها ليجلسوا بالقرب منه ويستمعوا الى هذا اللحن العجيب.ظلوا يتسائلون عن حقيقته ,عن قصته .لم يستطيع أحد أن يعرف ربما هو لا يريد ان يعرف أحد قصته لا تعرف الناس انه كان عازف مشهور في يوم من الأيام كان أشهر عازف جيتار عرفته تلك الأرض كان متزوج من أجمل إمرأه في الكون كما كان يخبرها دوماً. كانت كل ليلة تطلب من ان يعزف لها أحد الالحان المفضلة اليها اللحن الذي سمعته اذنيها في أول مرة تراه عيناها

كانت دوماً تخبره بأنه سوف يصبح العازف الأشهر في البلاد كان دوما ما يبتسم عندما تخبره ذلك وهو يقول "لا أعتقد هذا فأنا مجرد عازف جيتار فقير يعزف في الحانات وعلى الطرقات" كانت اجابتها واحدة "سوف ترى" وتبتسم ابتسامة تنير له حياته المظلمة كأول شعاع ضوء يخترق الظلام معلناً رحيله وقدوم الفجر.

كانت تقول له عدني بأنك ستظل تعزف لي هذا اللحن كل ليلة مهما بلغت من الشهرة وكل مرة يقول لها أعدك ومرت الأيام وأصبح أشهر عازف في البلاد كان الملوك والنبلاء يطلبونه بالاسم كان يعزف الحانه في أكبر المسارح ويوماً بعد يوم يزداد شهره ومال ولم يعد يعزف اللحن لزوجته . كان دوماً ما يقول لها أنه أصبح مشهوراً الآن وأن هذا اللحن يذكره بأيام الفقر والعناء.

في يوم من الأيام منذ عدة سنوات عاد الى بيته ليلا ليجد زوجته في انتظاره لم يلحظ شحوب وجهها طلبت منه ان يعزف لها لحنها المفضل أخبرها أنه مرهق ولا يستطيع العزف الحت في طلبها ولكنه عنفها وخلد الى النوم أستيقظ في الصباح ليجدها ليست بجواره ظن انها تحضر طعام الافطار ذهب ليبحث عنها ليجدها على الأرض في شرفة المنزل وفي يدها ورقة مرسوم فيها شجرة وحيدة وسط أرض خضراء فوق أحد التلال كانت دوماً ما تحكي له عن هذا المكان وكيف أنها رأته في طفولتها في أحد أسفارها مع أبيها وكيف أنها حفرت اسمها على تلك الشجرة كان دوما ما يقول لها في يوم ما سنرحل سويا ونبحث عن هذا المكان ونبني هناك بيتاً صغيراً لنا..مرت الأيام وهذا اليوم لم يأتي...في ظهر الورقة وجد كلمة واحدة بخطها " أُحبك"

أخذ يضمها الى صدرة ويبكي بجنون ذهب الى جيتاره وهم أن يكسره ولكنه تراجع عن هذا وأخذ على نفسه عهداً بأن يعزف هذا اللحن وأن لا يتوقف حتى أي يجد هذا المكان المرسوم في تلك الورقة ويعزف بجوار هذه الشجرة لعلها تسامحه أو لعله يسامح نفسه. ظل يجوب البلاد لسنوات حتى وجد المكان أخيراً

****

في صباح أحد الأيام استيقظ اهل البلدة ولم يسمعوا صوت العزف ظنواجميعاً أن العجوز قد رحل . ذهبوا الى الشجرة أعلى التل وجدوه هناك يسند ظهره الى الشجرة وجيتارة ملقى بجانبه وفي يده صورة لتلك الشجرة ظنوا أنه نام أخيرا من التعب ذهب أحدهم ليوقظه فوجدة جثة هامدة عيناه محدقتان في السماء و ابتسامة سعادة مرسومة

على شفتيه لاحظ أحدهم تساقط بعض الدماء من أظافره ووجود بعض لحاء الشجر عالق بها فنظر الى الشجرة فوجد عليها نقشين أحدهما قديم ويحمل اسم فتاة والأخر يبدو حديثاً حاول قراءته فوجدها كلمة "سامحيني"

تمت


عمرو خاطر



*image: The Old Guitarist Painted by Pablo Picasso in 1903