Wednesday, July 18, 2012

هجرة....


يجلس وحيداً في الشرفة برغم تأخر الوقت وبرودة الطقس إلا أنه لا يرتدي سوى ملابس صيفية خفيفة. يخرج سيجارة  ويشعلها ثم يأخذ نفس عميق. يسعل بشدة فتلك أول مرة في حياته يضع سيجارة في فمه, يشرب قليلاً من الماء ثم يأخذ نفس أخر من نفس السيجارة . تلك المرة أقل ألماً من السابقة. ينظر الآن إلى هذا الشيء المشتعل في يديه ولا يدري لما يتعلق به بعض البشر إلى تلك الدرجة. ينظر إلى السماء الخالية تماماً من النجوم ويبتسم قائلاً : حتى القمر وحيد. ينظر الى السيجارة التي قاربت على الانتهاء ثم ينظر إلى العلبة الموجودة على أطراف سور الشرفة تلك العلبة التي اشتراها منذ عدة أيام دون أن يعلم السبب فهو لا يدخن ولا يحب التدخين ربما أرد أن يقنع نفسه بأنه قادر على المجازفة أو على الخروج عن المألوف.. فهو كما يصف نفسه كائن نمطي لا يحب المجازفة ولا يعشق المجهول. متردد دوماً خائف من شيء ما لا يعلمه عنده شعور طوال الوقت بأن لديه امتحان شديد الصعوبة في الصباح وهو غير مستعد.
تنتهي السيجارة ينظر إليها وتنتابه رغبة ملحة بأن يطفئها في جسده ولكنه يقاوم تلك الرغبة ويلقيها في فنجان القهوة الشبة فارغ أمامه. يقوم من جلسته ويتجه نحو غرفة نومه يبحث عن ريموت الكاسيت ويضغط على أحد الأزرار فتنبعث من السماعات موسيقى "صامويل باربر"* فتنتابه رعشة خفيفة. يرفع الصوت ويتجه نحو الدولاب يخرج طقم الملابس الوحيد المتبقى بداخله ويغير ملابسه. يلاحظ في أخر الدولاب تلك النوتة التي كان يكتب فيها مذكراته صغيراً يمد يده ليلتقطها ويفتحها لتسقط من داخل طياتها وردة ذابلة يلتقطها وهو يبتسم ثم تخرج منه تنهيدة طويلة لقد وضع تلك الوردة بداخلها منذ زمن طويل كان وقتها يؤمن بأن لكل شخص نصيبه من الحب الذي سوف يلقاه في يوم ما من الأيام. لقد وضع تلك الوردة لكي يعطيها لفتاة أحلامه يوم يلقاها ليخبرها أنه ينتظرها منذ زمن بعيد. يعيد الوردة إلى مكانها قائلاً بصوت متحشرج "يا عبيط". يقلب في صفحات تلك النوتة فيجد أبيات شعر مكتوبة بخطة السيئ الذي يعرفه جيداً " حلم حزين بين أطلال النهاية في ذبول يبتسم.... عُمر على الطرقات كالطفل اللقيط يسأل الأيام عن أب وأم ... نهر جريح تنزف الشطان في أعماقه حتى سواقيه الحزينة مات في فمها النغم..."** يغلق النوتة وينتهي ارتداء ملابسة ويتجه نحو الصالة صوب الحقيبة الكبيرة المجودة في منتصف الطاولة يضع بداخلها النوتة ويلقي نظرة سريعة على محتوياتها ثم يغلقها ويجذبها من مقبضها ليحملها فيسمع صوت ريموت التلفاز يسقط من على الطاولة ليفتح التلفاز ينظر الى المشهد الموجود على الشاشة الزجاجية "إمتى بتحس ان البلد دي بلدك فعلاً؟ لما إيه يحصل؟" "بلدي هي البلد اللي فيها الناس اللي بحبهم..!""هايل..اللي بتقدروا تتواصلوا مع بعض..اللي في بينكوا وبين بعض أرضية مشتركة..صح؟" "صح." "طب أنا دا مش حاصلي..!"***
يمد يده ليغلق التلفاز وهو يبتسم قائلاً مش حاصل لحد فينا أصلاً...
يحمل حقيبته ويخرج من الشقة ويغلق الباب خلفه ينزل إلى الشارع يقرر أن يتمشى قليلاً فهو يحب المدينة ليلاً ينظر إلى الشوارع الخالية من المارة يسأل نفسه هل سيفتقدها .. يمر بجوار أحد الأرصفة التي جلس عليها منذ عدة أشهر مع إحدى صديقاته بتذكر الحوار الذي دار بينهما
-أنا بفكر في الهجرة..
-إنت بتتكلم جد الغربة صعبة يا ابني
- هو يعنى اية غربة أصلاً
-يعني تعيش في مكان تحس فيه إنك غريب
- مهو أنا حاسس بالغربة هنا وحاسس اني غريب هنا فا من باب أولى إني أسافر على الأقل الشعور دا هيبقى مبرر
 --
يخرج هاتفة من جيبه ويكتب رسالة نصية "أنا مسافر النهاردة.... هتوحشوني" ويرسلها ل 3 أسماء على هاتفة ثم يغلق الهاتف... لم يخبر أحد بميعاد السفر فهو يكره الوداع يتوقف عن المشي  ويشير لأحد سيارات الأجرة يركب في الخلف ويخبر السائق بوجهته قائلاً المطار لو سمحت..

تمت


*Samuel Barber - Adagio for Strings
http://www.youtube.com/watch?v=izQsgE0L450
** من قصيدة وخلفتا ذئب الغنم لفاروق جويدة
*** من فيلم ميكروفون