Saturday, August 24, 2013

حسابات الكــارما....!


يقف أمام المرآة ممسكاً برابطتي عنق في كلتا يديه وينظر نحو وجهه المجهد. تبدو عليه علامات الإجهاد وهذا شيء طبيعي لشخص لم يذق طعم النوم منذ أكثر من 48 ساعة. من مكان ما في الشقة ينبعث صوت أحد المقرئين من جهاز الكاسيت قائلاً " وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ"[1] فيجهش بالبكاء وتخذله قدماه، يشعر انه على وشك السقوط يتراجع حتى يصل للفراش ويلقي بنفسه عليه. ينظر الى البرواز الخشبي المعلق امامه، صورته مع امرأة شقراء جميلة تبتسم في الصورة ابتسامة رائعة وهي تحاول ان ترميه بالماء بينما يتفادى هو الماء ساقطاً على الأرض ضاحكاً. كان هذا هو لقائهما الأول، تضارب المشاعر بداخلة الآن، يبتسم وهو يبكي وينتحب بدون صوت. يلملم ما تبقى من قوته وينهض ثم يذهب نحو المرآة مرة أخرى. يدرك لأول مرة كم هو صعب انتقاء رابطة العنق المناسبة. يرتدي الملابس الرسمية منذ زمن طويل ولكنها كانت دوما تتخير له الأصلح من رابطات العنق. كانت دائما ما تقول له "لولاي لظن الناس أنك تسرق تلك الملابس من أشخاص مختلفين"، فيقول لها "كنت أبدو هكذا قبل أن القاك فلم أحببتني إذن"، تجاوبه بابتسامة "أشفقت عليك"، ثم تجري ضاحكة.
يحمل الرابطتين ويتوجه نحو الصورة، أرجوك ساعديني، ينتظر الرد ولكن لا شيء يحدث. يكرر طلبه. نفس النتيجة، يُلح أكثر، لا شيء، يبكي قائلا هذا ليس عدلاً ... ينظر إلى أعلى ويقول "لم تتركيني؟ لم يكن هذا هو الاتفاق، لم تكن تلك هي الخطة، كان من المفترض أن نتقدم في العُمر سوياً، كان المفترض أن نطوف العالم وحدنا، لم رحلتي وتتركيني ها هنا وحيداً؟"
يترك رابطتي العنق بجوار الصورة قائلاً: لن أرتدي تلك الأشياء مرة أخرى، يكفيني ضيقي واختناقي من الحياة.
يخرج نظارة الشمس السوداء يرتديها ويحمل مفاتيح السيارة، يغلق الكاسيت ويخرج من المنزل.
يركب سيارته ويخرج سيجارة ويشعلها. “ألم نتفق أنك ستقلع عن التدخين؟" يناديه صوتها من جانبه. ينظر إلى مقعد السائق فيجدها تنظر إليه نظرتها التي تخترق روحة فتفصح عيناه عما بداخلة، تنظر إليه نظرة الطفل الذي طلب شيء من والدة ولم يأته به، عندها يفتح نافذة السيارة ويلقي بالسيجارة وهو يقول " أسف! لن تتكرر، وها هي العبوة بأكملها" ثم يمسك بالعبوة ويلقيها من النافذة.
يمد يده مبتسما نحو يدها يمسك بها ثم يقربها من فمه ليقبله قائلاً " أرجوك لا تغضبي" فيجد نفسه يقبل الهواء. ينظر إلى جواره فلا يجدها. ينظر خلفه، لا أثر لها. ينتزعه من أحلامه أصوات أبواق سيارات متصلة وأنوار عالية متقطعة ينظر فيجد نفسه في الاتجاه المعاكس من الطريق، يتفادى السيارات القادمة في مواجهته ثم يعود إلى طريقة.
يصل إلى المقابر فيجد هناك العديد من البشر المتشابهين كلهم يرتدون الأسود، يرددون نفس الكلمات، نفس نظرات الشفقة، تلك النظرة التي تجدها في عين أحدهم عندما يرى صورة لأحد أطفال المجاعات في أفريقيا أو رأى كلباً بثلاث أرجل فقط. كان يمقت تلك النظرة كما يمقت البشر. يتهرب من الأشخاص الموجودين ويقف بعيداً بجوار أحد الأشجار. يقوم أحد المشايخ بإلقاء خطبة عن الموت والحياة بعد الموت ثم يطلب من الجميع الدعاء.
عندما أتت لحظة وضع جسدها في التراب لم يستطع أن يتمالك نفسه فأسرع نحو السيارة منطلقاً لا يعرف إلى أين.
ماتت وهي غاضبة منه، كان هذا ما يعذبه حقاً. لم يكن بجوارها ليخبرها مدى حبه لها. لم يكن بجوارها ليمسك يدها، ليمسح بأصابعه على وجهها لكي لا تشعر أنها وحيدة لحظة الفراق. كانت مشاجرة تافهة ليس لها معنى مشاجرة عادية كملايين المشاجرات اليومية التي تحدث بين الأزواج. لو كان يعرف أن تلك الكلمات التي قالها هي أخر ما سوف تسمعه منه للأبد لتمنى أن يشل لسانه قبل أن يقولها. خرجت غاضبة، عِنده الغبي منعه من أن يخرج ورائها مثل كل مرة ...
نرتكب العديد من الحماقات ظناً منا أن لدينا الوقت الكافي لنعتذر عنها، ولكن في الحقيقة أننا لا نملك وقتاً لأي شيء. أغلقت الباب بعنف، نزلت مسرعة إلى الشارع، قال لنفسه لن أركض ورائها، ليست هذه المرة. يمسك بريموت التلفاز ويقلب بين القنوات، يسمع صوت أبواق سيارات تأتي من النافذة، صوت ارتطام، ضجيج بشر، صوت يخترق الجميع ليطلب أحدهم الإسعاف.

يجري نحو النافذة ليجدها ملقاة على الأرض بجوار سيارتها وسط بركة من الدماء، سيارة يقودها صبي تقف أمامها، الطفل يبكي واحدهم ممسكاً به يمنعه من الهرب. شعر بأن عيناها تنظر إليه، خرج مسرعا من المنزل يقفز على السلالم يصل إليها ويحتضنها، ولكنها لا تتنفس. يضغط بيده على قلبها ... يردد كالمجنون ... أسف ... أسف ... أسف ... سامحيني ... لا .... لا ... يضمها إلى صدره ... يحاول رجال الإسعاف أن يخلصوها من بين يديه. تتشنج يداه حولها ويردد بهستيريا ... أسف ... سامحيني ... يحوقل الناس من حوله، وبعضهم يبكي.
تنشله من ذكرياته أصوات الأبواق مرة أخرى هل هو في الطريق المعاكس مرة أخرى؟ لا .. لا توجد سيارات أمامه ولكن سيارته تتجه نحو أحد أسوار الكوبري. يحاول أن يعدل مسارة ولكنة يفشل، تصدم السيارة بالرصيف ومنه إلى السور الحديدي لتخترقه وتسقط باتجاه النهر. يمسك بالمقود بكلتا يديه، يغمض عينه ، ويبتسم ... !




[1] سورة الأنبياء – أية 89


عمرو خاطر 
اغسطس 2013