Monday, December 23, 2013

Disconnect... !



يجلس محملقاً في شاشة الكمبيوتر أمامه. تتسارع الأرقام والبيانات يحاول أن لا يفقد تركيزه , يمد يده إلى كوب القهوة الموضوع على يمينه دون أن يفقد اتصال العين مع الشاشة الزجاجية. يرتشف قليلا من المشروب الساخن بيمناه بينما تتابع اليد اليسرى عملها بمهارة في النقر على لوحة المفاتيح. يقطع تركيزه صوت نقرات على الحاجز الخشبي الفاصل بينه وبين مكتب أحد زملائه في العمل بينما يصيح أحدهم من أخر الممر "الساعة خمسة".

يغلق الكمبيوتر ويدفع بالمتبقي في الكوب إلى حلقة دفعة واحدة، يرتدي الجاكيت الخاص به وينصرف.يقف في طابور طويل أمام ماكينة البصمة التي تسجل الحضور والانصراف. يوزع نظراته على الجميع فإذا ما صادفت أحد يعرفه قام بتحيته عن طريق حركة ميكانيكية من حاجبية. حتى بالتلويح باليدين انقرض! يفكر مبتسما. يخرج من باب المبنى العملاق ذو الواجهات الزجاجية متوجهاً نحو السيارة. يخرج صندوق السجائر من جيبة ويشعل واحدة.

يتذكر أنه قد وعد نفسه بالإقلاع فيلقي السيجارة على الأرض ثم يطفأها بقدمه. زحام زحام زحام … كما اعتاد يوميا .. اوقات الذروة هي كل الأوقات في هذا البلد الكئيب. الجو خانق على الرغم من كونه في يناير. يمد يده ويغلق زجاج السيارة فتخفت أصوات الزحام من حوله. يشعل مكيف الهواء متمتماً هذا أفضل. يمد يده نحو راديو السيارة ليشعله ولكن تقاطعه نغمة متقطعة على هاتفه معلنة وصول رسالة نصية من أحدهم. يفتح الرسالة فيجدها من زوجته الطبيبة "عندي عمليات كتير النهاردة هرجع الصبح في أكل في الديب فريزر". يبتسم قائلاً "حاسس اني متجوز التليفون" ..

في بداية الزواج كانوا يخلقون الوقت مهما كنت الظروف للقاء وللخروج وتناول العشاء بالخارج. كانوا يذهبون إلى السينما مرة أسبوعيا. يخضرون حفلات موسيقية ثم بعد أول عام بدأت الاعتذارات المتبادلة من الطرفين في بادئ الأمر عن طريق مكالمات يغلفها الحب والحميمة وآلاف الاعتذارات والوعود بتعويض اليوم. بعد فترة أصبحت رسائل صوتية ثم رسائل نصية تذيلها كلمة "بحبك" ثم اختفت تلك الكلمة تدريجا من الرسائل لتصبح مثل رسائل الأخبار المزعجة التي تغرق هاتفك المحمول يومياً.يشعر باختناق رغم برودة الجو داخل السيارة بفعل مكيف الهواء .. يمد يده ليحل رابطه عنقه.. يسأل نفسه عن سبب ارتداء رابطة العنق في الملابس الرسمية؟ هل لتذكرك دائماً بأنك لست حُر؟ مثل ذلك الطوق الذي تضعه للحيوان الأليف ليعلم أن له سيد يجب أن يطيع أوامره.

هل جرى العُرف أن ترتدي أنت ذلك الطوق الملون يومياً لتعرف أن قرارك ليس بيدك .. أن لك سيد هو العمل أو المال يخبرك بما يجب أن تفعله أو لا تفعله. رُبما!تنبعث نغمة رنين الرسائل مرة أخرى يلتقط الهاتف فيجد بريد إلكتروني من العمل يخبرونه بأن عليه أن يحضر اجتماعا ما في الإسكندرية غداً صباحاً.. اللعنة على كل أرباب الأعمال لو أنهم كانوا قد اشترونا من أسواق العبيد لكانت معاملتهم لنا أكثر إنسانية واحتراما من تلك التي يتعاملون بها الأن.

 يخرج من منزله بعد أن بدل ملابسة بشيء أكثر راحة للسفر يحمل حقيبته ويخرج هاتفه المحمول ليتصل بزوجته. رنين متقطع ثم البريد الصوتي يخبرها برحلته الغير متوقعه وينطلق في طريقه .يكره السفر وحيداً , في حقيقة الأمر يكره الوحدة عامة. ففي وحدته يعمل عقله على تقليبك كل القرارات والمواقف الخاطئة في حياته ليذكره كم هو أحمق.

يبدأ أولا بقرار الزواج , لماذا تزوج؟ تزوج لأن على كل شاب أن يتزوج في مرحلة ما من حياته .. تزوج لأنه إذا لم يجد المرأة الصحيحة فكلهن خاطئات ولن يفرق من منهن سيتزوج..  تزوج لأنه أراد أن يملئ هذا الثقب الذي يأكله من الداخل ذلك الثقب الذي لن يملئه إلا الشخص المناسب ولكن حينما تسأم من البحث عن هذا الوهم المسمى بالشخص المناسب تحاول جاهدا أن تملئ هذا الفراغ الدائري بكافة أنواع الإشكال إلا الدائرة. تزوج لأنه مل جملة والدته المعتادة كلما رأته "نفسي أشيل عيالك قبل ما أموت " ثم تبكي قائله "إحنا كده....مابنعرفش نفرح" . ليجد نفسه بين عشية وضحاها جالسا في أحد الصالونات يطلب يد فتاه لا يعرف شيء عنها سوى أنها –طبقا لمعلومات السيدة الفاضلة والدته – بنت حسب ونسب وأصول وفوق كل هذا طبيبه .يجلس في مشهد عبثي يتناول الحلويات ويشرب العصير بينما يتبارز الجانبان في إظهار محاسن ابنه أو ابنته للطرف الأخر كأنهما في سوق للعبيد كل يروج لبضاعته.

ثم ينتقل لقرار أخر خاطئ ف حياته هو قبوله لتلك الوظيفة المرموقة الرتيبة في أحد الشركات ولكن ما باليد حيلة في وظيفة مضمونة وعائدها المادي مجزي ثم "إنت مش لوحدك دلوقتي ...إنت في رقبتك بيت و أسرة" .. تبا لهذا الاستقرار الخانق ...يصل إلى الفندق الذي سوف بقضي به ليلته يصعد إلى غرفته ويبدل ملابسة ثم يقرر النزول ليجلس في أحد الكافيهات الشهيرة ليحتسي قهوة سيئة الطعم ذات سعر مبالغ فيه. تقاطعه نغمة هاتفه مرة أخرى ليجد بريد إلكتروني بجدول وميعاد الاجتماع يضع الهاتف أمامه ثم يدور بعنينه في المكان المزدحم...يجد مجموعة من الفتيات لم يكدن يبلغن العشرين بعد يلتفون حول منضدة دائرية تمسك كل واحدة منهن بهاتفها في يدها و تتحرك أصابعها على مفاتيحه بسرعة مذهلة دون أن تنظر إحداهن للأخرى .. ظل يراقبهن لبضع دقائق قبل أن ترفع إحداهن رأسها و تنظر لباقي المجموعة قائلة بإنجليزية مصطنعة
“I Know…Right?”
ثم يضحكن وتعود كل واحدة مننهن إلى شاشة هاتفها
. يا إلهي! ... إنهم يتحدثون إلى بعضهم البعض عبر الرسائل الافتراضية على الرغم من جلوسهم على بضع سنتيميترات من بعضهم البعض ! يكمل جولة عينية في المكان ليجد أن الكل مشغول بهاتفة أو الكمبيوتر الخاص به .. الكل ينظر إلى فخذية ويبتسم .. لا أحد يتحدث إلى الآخر. يشعر بالاختناق فيطلب الحساب وينصرف.

يذهب إلى الشاطئ برغم برودة الجو. لا أحد غيره الآن هناك . ينظر إلى المجهول إلى الامتداد اللانهائي من المياه أمامه. كم هو شعور رائع أن تنظر مد بصرك دون أن تحجمك جدران أو مباني أو سيارات. يشعر أن قلبه قد شاخ برغم أنه ما زال في منتصف الثلاثينيات .. يشعر أن عمره قد سلب او يتم سلبه .. فليذهب الاستقرار إلى الجحيم إن كان سيقتله بالبطيء. اللعنة على الأسلاك والرسائل والهواتف التي أصبحت تبعد الناس بعد أن كان السبب الأول لاختراعها هو التقريب بينهم في المقام الأول . يرن الهاتف اللعين مرة أخرى بريد إلكتروني أخر ... تحمر وجنتاه وتكاد عروقه أن تنفجر من الغيظ وهو يقرأ ان الاجتماع قد تأجل للأسبوع القادم و أن الشركة تعتذر عن الإزعاج ... يصرخ بكامل صوته حتى كاد أن يجرح حنجرته ... اااااااااااااااه ! لماذا هو مجبر على تحمل مثل هذه التفاهات وهذا الاستعباد ... هذا هو الشيء المزعج ... إنه ليس في حاجة لكل هذا .. يفتح بريد جديد ليرسل رسالة لمديرية يخبرهم باستقالته .. يتصل بزوجته , لا أحد يرد! يعاود الاتصال , لا يوجد رد ! يرسل لها رسالة يخبرها بقراره المفاجئ .. لحظات ويجد اسمها في خانة المتصل على شاشة هاتفه ! الآن تتصل؟! يمسك بالهاتف ويطوح به بكل قوة في البحر ,يفقد توازنه ويسقط على ظهره فوق الرمال. يرقد صامتا يتأمل السماء التي امتلأت بالغيوم يتنفس بعمق لأول مره منذ أعوام بينما يتساقط عليه المطر من أعلى وتغشاه الأمواج من أسفل. !


عمرو خاطر

No comments: